في العام 1965 جلس مجموعة من الشباب الزنوج-الأميركيين في شارع برونكس بمدينة نيويورك، يلقون قصائدهم المقفاة على حشدٍ من الناس. وحالما جاء دور كاشيوس إيليا فران، أحضر طبلاً أفريقيا من ذاك الذي تستعمله "قبائل الهوسو" وبدأ بإلقاء شعره مع دقات متتابعة ومتتالية على الطبلة. كانت هذه هي الولادة الأولى لفنٍ جديد، سيعرف لاحقاً بإسم "الراب". ولم يخطر ببال كاشيوس ساعتذاك بأن هذا الفن سيصبح واحداً من أهم الفنون الغنائية المعاصرة للشعب الأفريقي-الأمريكي.
بعد ذلك أخذت الطريقة هذه في إلقاء الشعر والتي أعطيت اسماً توصيفياً هو "الراب Rap" (والكلمة هي في الأصل Wrap، والمقصود هو Wrapping poetry with music، أي ما معناه إحاطة أو لف الشعر بالموسيقى) ينتشر بسرعة بين الأميركيين من أصول أفريقية، كونه يتحدث عن مشاكلهم ومعاناتهم. وبدأ الراب يعرف الشهرة خصوصاً مع تفرغ عدد من الشبان لهذا النوع من الغناء، وتحولهم من الهواية إلى الاحتراف. فظهر مجموعة من المؤدين الشباب كان أبرزهم على الإطلاق في تلك المرحلة Gang Starr, Kool Herc, D.J. Hollywood, Afrika Bambaataa Run DMC, والكثيرين غيرهم وبدا أن هذا النوع من الغناء سيأخذ مكانه بجوار الفنون الأخرى التي اعتاد السود اتقانها كالسول Soul والبلوز Blues والجاز Jazz؛ طبعاً بالإضافة إلى الريجا الجاميكية Jamician Regga والتودو الأفريقي African Tudu.
وكان من الواضح أن مواضيع القصائد التي يغنيها المؤدون تنقسم إلى ثلاثة أقسام: العلاقات الإنسانية، نظام الحياة المسمى بنظام العصابات Gangasters Life، وأخيراً المواضيع السياسية الملحة التي تظهر بين الحين والآخر، وخصوصاً العنصرية البيضاء تجاه السود.
هذا كله أدى إلى ظهور ثقافة أخرى هي ثقافة "الهيب هوب" (Hip Hop)، والكلمة بحد ذاتها مأخوذة من أغنية (رابرز ديلايت-فرح مغني الراب- Rapper’s Delight) لفرقة Sugarhill gang في العام 1979، وتؤدي معنى القفز صعوداً وهبوطاً. وبدأت هذه الثقافة بالتمظهر اجتماعياً في تلك المرحلة، مرتكزة على الفن الأفريقية، من حيث إطالة الشعر أو تجديله بالطريقة الأفريقية متناغمةً مع طرق مميزة في الملبس والكلام، وهذا بالطبع بتأثير وإيحاء من مؤدي فني الراب، وفناني الغرافيتي (Graffiti) الذي هو بدوره نوع من فنون الرسم، نجده في أغلب خلفيات أغاني وفيديو كليبات الراب.
لأن الراب فن اجتماعي وثوري في آنٍ، كان لا بد له أن يتأثر بالحالة الاجتماعية التي كانت سائدة، حيث كان التمييز العنصري في أوجِّه، وحروب العصابات هي أبرز ما يميز المجتمعات السوداء في أميركا، لذا فقد ظهرت تلك النزعات بعنف في عالم الراب، فأصبح كل مؤدي أو رابر (Rapper)، هو لسان حال مجموعته(عصابته) وفارسها -كما الأمر عند القبائل العربية-، وظهر راب العصابات أو كما يعرف باسم (Gangasta Rap) في العام 1988، لتبدأ المرحلة الثانية من حياة الراب، وكانت أول فرقة قدمت راباً من هذا النوع هي فرقة من ولاية كاليفورنيا هي (N.W.A) وهي اختصار لتسمية (زنوجٌ لهم توجه – Niggas with attitude) والتي ضمت آنذاك مجموعة من الأشخاص الذين سيصحبون نجوماً كأفراد أيضاً -خارج الفرقة- فيما بعد مثل: د. دري (Dr. Dre) و آيس كيوب Ice Cube و إيزي إيEazy-E).
وبالترافق مع هذه المرحلة ظهرت فرق ذات أداء سياسي موجه، ومؤثر في المجتمعات الأميركية-السوداء مثل Public Enemy التي قدَّمت فناً، خاصاً تمثَّل بالوعي السياسي العميق، والأداء اللغوي القاسي؛ وقد تعرَّضت هذه الفرقة بالتحديد، كما غيرها من الفرق إلى العنف الشديد من قبل القوى الأمنية-السياسية الأميركية، فأدرى الأمر إلى تشرذم الفرقة وتفككها فيما بعد. وكان هذا الإنطلاق السياسي للراب متزامناً مع وجود حركات تحررية داخل المجتمع الأفريقي الأمريكي، كحركة الفهود السود (Black Panthers) مع ديفيد هيوي وبوبي سيل، وأمة الإسلام (Nation of Islam) وخصوصاً لسان حالها الشهير مالكوم أكس (Malcolm X)، وحركة اللاعنف الدينية التي مثلها القس الشهير مارتن لوثر كنغ. وقد حاولت المباحث الفيدرالية الأميركية (FBI) أن تمنع أو تحد هذين النوعين من الراب إلا أن محاولة منعهما دفعت بهما إلى الواجهة بشكلٍ كبير.
في هذه المرحلة، ظهرت صورة الراب مختلفة عما سبقها، ففي المرحلة السابقة، كان المؤدي هو شاعر يغني دائماً على إيقاعٍ بطيء، يزيد أو يقلل سرعته تبعاً للحدث والكلام الذي يتحدثه، أما في هذه المرحلة، فإن الأغاني عرفت شكلاً آخراً، هو مرحلة الأغنية الكاملة، الكلام البذيء، والهجوم الشديد على الخصوم،
والتحدث عن الحياة الجنسية، والدعوة للإنفتاح الجنسي، وتدخين حشيشة الكيف والماريجوانا.
وهذا يظهر في أغلب الأغاني التي ميزت هذه المرحلة، فظهر أبرز مؤديين معروفين في عصرنا الحالي أمثال: (Geto Boys, Snoop Doggy Dogg, , Puff Daddy (P. Diddy)). ولكن التجربتين الأهم كانتا لـ: توباك شاكور Tupac Shakur، وبيغي أو Biggie Smalls (The Notorious B.I.G.)كما يلقب. وهذان الاثنان قضيا نحبهما اغتيالاً شأنهما شأن أغلب (الشعراء-المغنيين)، ذاك أن نظام الاغتيالات ساد تلك المرحلة، فكانت العصابات المتنافسة تميل إلى إسكات صوت العصابة الخصمة، فتقتل شاعرها، وبذلك تقضي على لسانها الهجومي. وهكذا فإن توباك وبيغي دفعا ثمن هذه المرحلة.
ولكن هذه المرحلة من الراب لم يحتملها الشارع طويلاً، ذاك أن تحول هذا الفن إلى نوع من استعراض العضلات، وابتعاده عن المشكلات الاجتماعية التي حملها من البداية جعل الشارع يكرهه، لذا بدأت محاولات المؤدين أن يعيدوا الفن هذا إلى أصوله، وكان أول المحاولين، هو أحد رموز المرحلة السابقة، توباك شاكور، ففي آخر مجموعة من أعماله حاول توباك أن يتحدث عن حياة دعاها بإسم Thug life وهي عبارة عن الحياة التي يتمناها للناس بعيداً عن العصابات، وهو لطالما تحدث قبل مقتله عن يوم يتمنى أن يعيش فيها أطفاله دونما خوف من العصابات، ومن التمييز ومن كل المشاكل العنصرية، وقد بدت كل هذه الرسائل واضحة في ديوانه/شريطه الأخير Better dayz، حيث تحدث عن أيام يستطيع فيها الزنجي في أميركا الحياة بحرية مرفوع الرأس.
هذه المرحلة التي بدأها توباك، أكملها أحد الشبان الذي تتلمذوا على يديه، كان هذا الشاب هو Dr. Dre وقد أصبح "د. دراي" ثرياً بعد نجاح شريطه المدعو Chronicals بشكلٍ كبير، هذا النجاح دفعه إلى تأسيس شركته الخاصة لإنتاج وتبني فناني الراب قبل توجههم ناحية العصابات. وبدأت تلك المجموعة بتبني الكثيرين وكان أبرز من تبنتهم ( Obie Trice, 50 Cent والكثير غيرهم). ولكن القادم الأهم بالطبع كان هو أشهر شاعر/مغني في العالم، والمقصود بالطبع هو إيمنيم Eminem.
فهذا الفتى الأبيض هو حالة فريدة من نوعها، فهو الأبيض الوحيد الذي يؤلف الراب ويغنيه بمهارة بالغة، لا يوازيه فيها أحد، فالراب الذي عدَّ دائماً فناً أسوداً خالصاً تحول مع إيمنيم إلى فن عالمي، وهذا ما دفع بشركة "دراي" إلى مساعدته ودعمه في البداية ليقدموه ضمن مجموعة من الشعراء/المغنين اسمهم ديرتي دوزن (Dirty Dozen) وهذه الفرقة كان ايمنيم أبرز أعضائها وأكثرهم إثارةً للضجة والتساءل حوله. بعد ذلك انتقل إيمنيم إلى شركته الخاصة التي هي قسم من الشركة الأساسية التي يملكها "دراي"، ويصبح هو مثل صديقه الأقرب "د. دراي" الأب الروحي للكثير من الشعراء/المغنين.
وبغض النظر عن كون إيمنيم الشاعر/المغني الأبيض الوحيد المتفرغ للأمر، (طبعاً لا ننسى بعض الأداء الجيد لمؤدين مثل مايك شنوده من فريق Linkin Park، وداني بول من Limp Bizkit)، فإن قصائده المغناة مثيرة للجدل من ناحية المواقف السياسية-الإجتماعية التي تحدثها، كما حدث في أغنية (Cleaning My Closet) حيث يظهر كما لو أنه يدفن أمه، بعد أن أساءت معاملته حينما كان صغيراً، أو في أغنية أميركا البيضاء (White America) التي يظهر فيها المجتمع الأميركي بصورة سوداوية للغاية، وفي النهاية يبدو مشنوقاً فيها. أو أغنيته التي يشتم فيها الرئيس الأمريكي جورج بوش (Hello President Bush).
موضوع: مقال علي الراب 
